مع تزايُد أَهميَّة الإِعلام في عصرنا، وقد باتت السُّلطة الرَّابعة تدنو رويدًا رويدًا، حتَّى لتكاد تقترب أَكثر فأَكثر من السُّلطة الأولى في الدُّول المُتحضِّرة، يبقى السُّؤَال المفصليُّ عندنا: هل يُمكن للإِعلام أَنْ يُؤَدِّي دور الوسيط بين الأَحزاب السِّياسيَّة للنِّقاش في شأن كلِّ القضايا العامَّة، كما حدث في جنوب إفريقيا عبر برنامج (Peace Caffee)؟.
لقد ساعد الإِعلام في تحسين أَداء المسؤُولين في الوظائِف العامَّة، من خلال عرض الحقائق والمعلومات بدقَّةٍ مُتناهيةٍ، وباستقلاليَّةٍ عن أَيِّ تأثيرٍ سياسيٍّ أَو ماليٍّ أَو أَيدولوجيٍّ أَو عُرقيٍّ، وبالتزام أَعلى مستويات الشَّفافية والنَّزاهة، من أَجل الوصول إِلى مُحاسبةٍ مسؤولةٍ يُشارك فيها النَّاس العاديُّون، لا بل كلُّ فئات المُجتمع، مِن دون أَيِّ تهميشٍ أَو إِقصاءٍ... فهل تُساعدها هذه المزيَّة في مسألة الوساطة السِّياسيَّة"؟.
كما وساهمت الصِّحافة الاستقصائيَّة في أَميركا الجنوبيَّة من خلال مُتابعة الفساد في المُؤَسَّسات العامَّة، في الإِطاحة بأَربعة رؤساءٍ في البرازيل سنة 1992، وفنزويلا(1993) والإكوادور(1997) والبيرو(2000).
وكذلك فقد عزَّزت الصِّحافة وعمَّقت معرفة الجمهور العامِّ بالقضايا الشَّائِكة مثل الفساد وعدم العدالة السِّياسيَّة والتَّهميش وانعدام تكافُؤ الفُرص بين فئات المُجتمع والجهات والمناطق، وبمسأَلة النِّزاع على الهُويَّة...
وسمحت أَيضًا بتعبير النَّاس عن المشاعر وبالتَّعاطُف مع القضايا الإنسانيَّة كما حدث في نيجيريا في ملفِّ 300 فتاة اختطفتها مجموعات مُسلَّحة ما استدعى بالتَّالي القيام بمبادرة (Bring backour girls).
بناء السِّياقات
ويتحدَّث بعض النَّظريَّات الإِعلاميَّة عن وجوب "بناء السِّياقات"، المُتعلِّقة بقضايا النِّزاعات والحُروب والصِّراع... كالتَّعريف بمطالب أَفرقاء النِّزاع ومصالحهم، وكذلك مطالب القوى العُظمى ومصالحها، ومطالب القوى الإقليميَّة.
ومِن ثمَّ ينبغي البحث عن أَفضل السُّبل لفتح الحِوارات وهُنا تُحمى صدقيَّة الصِّحافة بالقُدرة على طرح الأَسئلة الصَّحيحة، ما يعني طرح الأَسئلة على الجميع، وليس فقط على الأفرقاء المُرتبطين بالنِّزاع بل على كلِّ المُكوِّنات والفئات وصولاً إِلى المُهمَّشة منها.
ومن المُهمِّ أَلاَّ يقف دور الإِعلام عند نقل فظائع الصِّراعات بل لا بُدَّ مِن أَنْ يحاول ربط النَّاس من خلال نقاشاتٍ موضوعيَّةٍ ومفتوحةٍ...
لذا يمكن للإِعلام أَنْ يُؤَدِّي دورًا أَساسيًّا في دعم الاستقرار وتحقيق السَّلام، من خلال تسليح النَّاس بالمعلومات والحقائق المُدقَّقة المُقدَّمة في سياقاتٍ موضوعيَّةٍ تُمكِّنهم من فهمٍ أَعمق للأَحداث وخلفيَّاتها ودوافعها، وتساعدهم في اتخاذ قرارتٍ دقيقةٍ في شأن كلِّ ما يحدث من حولهم، وليس على أَساس ردَّات الفعل، المبنيَّة على الإِشاعات و"البروباغندا".
ويمكن للإِعلام أَيضًا، أَنْ يُساهم في تحسين أَداء الحُكومات والمَسؤولين في الوظائف العامَّة، من خلال المُراقبة والمُحاسبة المَسؤُولة وكشف الفساد!.
كما ويُصبح الإعلام داعمًا للسَّلام، عندما يتحرَّر من تأْثير السِّياسيِّين وأَصحاب المال... ولقد جاءت "صحافة السَّلام"، لتستعيد الدَّور الحقيقيَّ للإِعلام، وهي تسعى إِلى التَّغيير عبر نشر أُسس الصِّحافة المُحايدة، ومبادئ السَّلام.
وفي هذا السِّياق، يرى الأُستاذ المُساعد لآداب الاتِّصال في "كليَّة الآداب والعلوم السِّياسيَّة" في "جامعة بارك الأَميركيَّة" ستيف يونغبلود، أَنَّ "صِحافة السَّلام هي إِعطاء الصَّوت لمن لا صوت له"، مُسجِّلاً أَنَّ "الإِعلامَيْن الغربيَّ والعربيَّ غير حياديَّين، فيما الإِعلام الأَميركيُّ ضحيَّةٌ للإِعلام التَّقليديِّ، ويعتمد على العنصريَّة والجنس".
وأَمَّا صحافة السَّلام، فهي "مدرسة في الصِّحافة، تتخصَّص في تغطية النِّزاعات والحُروب في شكلٍ مُحايدٍ وموضوعيٍّ، حيث يحاول صحافيُّو السَّلام، التَّخفيف من حدَّة الأَزمات والمواقف، عبر نقل الأَوجه الإِيْجابيَّة للأَحداث مهما كانت.
وإِذا كان النِّزاع أَمرًا طبيعيًّا وجُزءًا أَساسيًّا من حياتنا اليوميَّة، فإِنَّ المُشكلة الحقيقيَّة تبقى في طريقة التَّعامل الإِعلاميِّ مع هذه النِّزاعات... والعنف لا يُختصر بالنِّزاعات المُسلَّحة فقط، بل ثمَّة عنفٌ معنويٌّ وثقافيٌّ واجتماعيٌّ يُمارس في لبنان يوميًّا...
ويرى البعض عندنا، أنَّ "مُقدِّمات النَّشرات الإِخباريَّة، تضجُّ بـ(البروباغندا) السِّياسيَّة، الخادمة لمصالح مالكي هذه المُؤَسَّسات من مُختلف الأَحزاب والتيَّارات. وغالبًا ما ينجرف كثيرون من الصِّحافيِّين اللُّبنانيِّين وراء السَّبق الصِّحافيِّ، خلال النِّزاعات الدَّاخليَّة، مُتناسين أَنَّ كُلَّ مكاسب الصِّراع، ستصبُّ حتمًا في مصلحة كبار المسؤُولين، ليس إِلاَّ.
ومع ذلك، ثمَّة أَملٌ في "النَّهضة الإِعلاميَّة"، إِذ ما زال ثمَّة صحافيُّون يتمسَّكون بقيم السَّلام واحترام حقوق الإِنسان والحريَّات الإِعلاميَّةِ...